جميع الحقوق محفوظة لصالح جريدة المساواة الرجاء ذكر المصدر عند اعادة النشر او الاقتباس

All rights reserved for Al Mousawat Journal Please mention the source when you republish or quote




Sunday, July 8, 2012

الطاغية والمدينة: علاقة استحواذ وتمرّد




هاني نعيم / لبنان


لماذا الدكتاتور يعشق المدينة؟
غريبة هي العلاقة بين المدينة والطاغية. لا يُذكر طاغية إلاّ وتليه اسم مدينة ما سيطر عليها، دمّرها، أو حاول تدميرها، والاستيلاء عليها. هكذا، يترافق اسم هولاكو مع بغداد. نيرون مع روما. هتلر مع ستالينغراد، إضافة إلى الطغاة المحليين الموزعين في العالم، هنا وهناك.

 
محتجون يُدمّرون تمثالاً للدكتاتور السوفياتي ستالين في العاصمة الهنغاريّة بودابست، عام 1956
استطاعت المدن أن تجذب الطغاة، خصوصاً وانّها شكّلت فضاءً عاماً للجماعات الإنسانيّة. هكذا، ليستحوذ الطغاة على كل شيء، ما عليهم سوى أن يُخضعوا الفضاء العام لسيطرتهم، اما الباقي فهي تفاصيل يلزمها بعض الوقت.
لذا، ليس غريباً، أو عبثاً أن يعتمد الطغاة الأنظمة المركزيّة في حكمهم، حيث تتركّز السلطات في مدينة واحدة (عادة ما تكون العاصمة). هكذا، ينحصر كل شيء في مدينة واحدة، خاضعة للسيطرة التامة، أما باقي البلاد فتصبح مجرّد أراضي وأناس تعيش على هامش الحياة العامّة.
وليُحكم الدكتاتور سيطرته على الفضاء العام، وبالتالي المدينة، يبدأ أوّلاً، بإلغاء ملامح المكان، ورسم ملامح اخرى، تشبه لحد بعيد ملامحه. هكذا، توضع صورة الدكتاتور التي يبدو فيها كأيقونة لا تُقهر في جميع الساحات العامة للمدينة، والشوارع الكبرى، ليُتاح لجميع قاطني المدينة أن يُشاهدوا “الأخ الأكبر”، الذي يُراقبهم في النهار، ويسهر عليهم في الليل. ليغدو المشهد مألوفاً للجميع، مع مرور السنين. وأيضاً، لا يغيب عن بال الدكتاتور استخدام الجدران لأقواله، وصوره، إذ تمتلأ جدران المدينة بأعمال وجداريّات تؤرّخ أقواله، أفكاره، وعبارات تأييديّة له. هكذا، يؤبّد قبضته على السلطة. وهكذا، يمحي ملامح الفضاء العام الذي عادة ما يتألف من أفكار، انفعالات، وخواطر سكان المدينة. لتُصبح المدينة فضاءً خاصاً به، ولكنّه فضاء يخضع له الجميع. هكذا، يُعيد تشكيل المدينة، على قياس ملامح وجهه.


الأخ الأكبر يُراقبك!

ودائماً ما يتذكّر الدكتاتور ان يُعبّد الطريق المؤدية  من وإلى المطار بصور عملاقة له، ليزرع ملامحه أيضاً في ذهن زوّار المدينة (والبلاد). وليؤكّد أنّه الآمر الناهي في البلاد، حتّى لمن قد لا يهمّه الأمر.
عندما يختفي الفضاء العام تحت “هيبة” الدكتاتور، يختفي صوت المدينة، وصورتها. من هنا، اتت تسميات “السعودية”، “عراق صدام حسين”، “مصر جمال عبد الناصر”، “سوريا الاسد”، “كوريا كيم جونغ ايل”، “المانيا الهتلريّة”، “إيران خميني”، وغيرها..
على سبيل المثال، هكذا، استطاع الطاغية معمّر القذافي الذي قتل على أيدي ثوّار ليبيا أن يقنع الجميع، دون استثناء، وعلى مدى أربعة عقود انّ ليبيا هي مجرّد صحراء بلا شعب. لوهلة، كنّا نعتقد انّ الشعب الليبي غير موجود، وإن وجد فهو شعب صامت. وقد اثبتت الثورة العكس. في ليبيا، شعب يصرخ للحريّة. وقد ملا صراخه الأرض. النموذج الليبي يشبه لحد بعيد النموذج الكوري الشمالي. من التقى يوماً بمواطن من كوريا الشماليّة؟
كل ما نعرفه عن الإنسان الكوري الشمالي (الذي لم نلتقيه بعد) انّ ملامحه متقاربة من ملامح كيم جونغ ايل (ما يحضر في ذهننا). وعلى الأرجح، لدى غالبيّتنا اعتقاد بأنّ الإنسان هناك، لا يضحك، ولا يُحب المزاح، وهو مجرّد إنسان بارد، يُريد أن يرمي كوريا الجنوبيّة في البحر. استطاع دكتاتور كوريا الشماليّة أن يُعمم ملامحه، ويستحوذ على ملامح شعبه.
لذا، عند الإنتفاضات الشعبيّة في وجه الطغاة، يعمد الناس كأوّل تعبير لهم عن تمرّدهم، إلى إنزال صور الدكتاتور عن الأبنية، والساحات العامة، وحرقها، دليلاً على أنّهم خرجوا عن طاعته. وكذلك الأمر، بالنسبة إلى الأصنام الموزّعة في أرجاء المدن.
بما أنّ وضع تمثال للدكتاتور في الساحة العامة لأي مدينة، يعني دخولها عهداً من الخضوع لرجل واحد، فكذلك اقتلاعه أثناء احتجاج شعبي، يعني دخول المدينة (والبلاد) عهداً جديداً من التمرّد ورفض هيمنة الدكتاتور. هذا ما جرى في المدن التي تمرّدت على طغاتها، وقد يكون ربيع براغ أبرز نموذج، حيث أصبحت تماثيل طغاتها في المتاحف. وهذا ما جرى أيضاً في بغداد، حيث شكّل إسقاط تمثال الدكتاتور صدام حسين نهاية حقبة من الظلم والقهر للعراقيين، ولكنّها للاسف لم تأتي على أيديهم، وهذا ما أدخل العراق في دوّامة من التطرف الديني  والعنف لا نعرف متى ستنتهي.
 

التمرّد على صورة الأخ الأكبر

وكذلك شكّل إنزال صور الطاغية حسني مبارك عن الأبنية والساحات في القاهرة، بداية حقبة جديدة لحياة المصريين. وكذلك فعل السوريون في مدنهم، إذ ارّخوا عبر هواتفهم النقّالة مشاهد تكسير تماثيل الدكتاتور الأب حافظ الأسد، إذ أنّ رمزيّة تكسير تمثال الدكتاتور، يعني خروج المدينة عن سيطرته. وهذا ما حصل في معظم المحافظات والمدن الكبرى، باستثناء دمشق العاصمة، وحلب.
المشهد الدمشقي نموذجاً
كل من يزور دمشق، ينتابه شعور عند دخوله، إن كان من مطار دمشق الدولي، أو أي من بوابات العبور البريّة، أنّه تحت المراقبة، حتى في الأزقّة والأماكن الخالية من عناصر الأمن، يشعر الجميع بأنّه مُراقب. هذا الشعور كان ينتاب اللبنانيين أيضاً أثناء حقبة الوجود البعثي في بلادهم.
 

الدكتاتور الأب في دمشق
 
عند مدخل دمشق، تستقبلك صور عملاقة للدكتاتور الأب، ولاحقاً تم إضافة صور الأبن. وإلى جانب الصور، كتابات جدرانيّة تحمل أقوال وعبارات قالها “الأخ الأكبر” ذات يوم. تم محو الفضاء العام المكوّن من الناس وتحويله إلى مجرّد فضاء للدكتاتور وحاشيته. ورغم ضوضاء دمشق المكتظة، يشعر المرء أنّها مدينة صامتة، وهذا طبيعي كون سياسة النظام الحاكم طيلة عقود كانت تكميم الأفواه، عبر الترهيب، النفي والاغتيال، لكل من تسوّل له نفسه انتقاد “الأخ الأكبر”.
المشهد الدمشقي يؤكّد اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى معنى استحواذ الدكتاتور على المدينة. رغم خروج غالبيّة المحافظات، مدناً وقرى، عن سيطرة النظام، مازال الدكتاتور الابن على سدّة الحكم. ولكن طالما مشاركة دمشق، كمدينة وعاصمة، في الإنتفاضة محدودة وخجولة (ومخجلة)، سيطول أمد النظام. هكذا، اختصرت البلاد بالعاصمة حيث تركّزت المرافق الحيويّة والسياسيّة والاقتصاديّة.
اضاف النظام عبارة "منحبّك" لصور الدكتاتور الابن
وقد كان واضحاً منذ بدء الإنتفاضة أنّه مهما جرى يجب أن تبقى صورة دمشق كما هي. الصورة التي نحتها النظام طيلة فترة حكمه، حيث صور الدكتاتور في كل مكان، يجب ان لا تنهار. وهذا مازال سارياً لحد بعيد، إذ لم تتعرّض صوره إلى الإزالة من الأماكن العامة، كما حصل لصوره في المحافظات الاخرى. لا يابه النظام لصورته خارج دمشق (وحلب نوعاً ما). خارج العاصمة، لا سلطة للنظام إلاّ بالرصاص. لا هيبة للأخ الأكبر بعد الآن، ولكن ممنوع أن تخرج دمشق عن السيطرة. وهكذا أي صوت يعلو في المدينة يتم خنقه بسرعة مذهلة. أي غرافيتي يُكتب على الجدران، يتم إزالته خلال دقائق، وملاحقة من يقوم بكتابة شعارات الكراهيّة الموجّهة للدكتاتور. في اللحظة التي كانت فيها قوّات الأسد وعصاباته تُحاصر، تقتحم وتُدمّر المدن والقرى السوريّة، كانت دمشق تستكمل حياتها وكأنّ شيئاً لم يكن. وكأنّ الحرب التي يشنّها النظام ضد المحتجين تجري أحداثها في بلاد اخرى، أو على كوكب آخر. ما يعني انّ الدكتاتور استطاع لحد كبير ان يمحي الفضاء العام للمدينة، ويحوّلها إلى مجرّد مكان سلطوي يخضع لما فُرض عليه.
هذا لا يعني انّ دمشق نائمة في سبات عميق. وهنا نُذكّر أنّ أوّل مظاهرة عفويّة ضد الدكتاتور في سوريا خرجت من أزقة حي الحريقة في دمشق، وأنّ جامعة المدينة لم تخلو من المظاهرات التي يُنظّمها ناشطون شجعان، ومن أعمال متفرّقة هنا وهناك، ولكنّها لم ترقى بعد إلى جو شعبي عام متمرّد على الصورة.
ولكن مع اقتراب الإنتفاضة عامها الاوّل، يبدو أنّ دمشق لن تبقى خارج المعادلة، خصوصاً عندما خرج الاسبوع الماضي عشرات الآلاف في حي المزّة لتشييع شهدائهم. وهذا ما يعني انّ المشهد لن يبقى على حاله. كما دمشق، كذلك الأمر عندما كان لبنان تحت قبضة البعث الفاشي. لم تفلت بيروت من ملامح الدكتاتور الأب الذي حاول، منذ دخول البلاد في هدنة الطائف في 1990 حتى 2005. كان الجميع يشعر انّه مُراقب، حتّى في الجلسات الضيّقة، كان الجميع يُخفض صوته عند الحديث عن الأخ الأكبر، او إطلاق النكات عليه. وأيضاً امتلأت المدينة بصور عملاقة للأسد، وفي بعض المدن، كمدينة بعلبك، وضع تمثال له في قلعة المدينة، حيث يُمكن لأي زائر للقلعة أن يُشاهد الدكتاتور إلى جانب المعابد القديمة. وكما يفعل السوريون اليوم من إزالة صور الدكتاتور من على الجدران، الأبنية، والساحات العامة، فعل ذلك اللبنانيّون عام 2005. حينها، خرجت عصابات الأسد من بيروت. وكان مع كل خروج لفرقة عسكريّة من أي مبنى (المباني حوّلت إلى ثكنات)، كان يذهب المواطنون المعارضون لوجوده إلى تلك الأبنية، ويمحو العبارات التأييديّة للدكتاتور عن جدرانها، عبر إعادة دهن تلك الأبنية، إضافة إلى إزالة الصور العملاقة له عن الطرقات والساحات. وقد شكّلت تلك الأعمال محور الإعلام اللبناني والغربي، كون هذه المرحلة كانت افتتاح لحقبة جديدة في تاريخ المدينة (والبلاد). نتذكّر في تلك الأثناء، أنّه أُعيد الاعتبار للمكان العام، حيث شكّلت ساحة الشهداء فضاءً جديداً للشباب اللبناني، وحاول هؤلاء رسم ملامح جديدة للمدينة، ولكن القيادات السياسيّة قطعت الطريق أمام ربيع المدينة، وانسحبت إلى مواقعها الضيّقة (وهذا أمر متوقع، وطبيعي)، ليعود المشهد إلى سابق عهده، وكأنّ شيئاً لم يكن.
جاءت الإنتفاضة في سوريا لتقلب الصورة رأساً على عقب. وقد استطاعت الإنتفاضة السوريّة لحد بعيد أن تنتصر في معركة الصورة والرموز ضد الدكتاتور ونظامه. لم تأتي فكرة “اثنين حرق الصور” التي ابتكرها الناشطون الميدانيّون من العدم، إذ عمدوا إلى جمع صور الدكتاتور الابن بشار الاسد من الاماكن العامة، وحرقها. وقد قام السوريون في جميع أنحاء العالم، بحرق صوره المتوافرة لديهم، ونشر مقاطع الفيديو على اليوتيوب. ما يعني انّ عهداً جديداً للبلاد قد بدأ. بدأت معركة استرجاع الفضاء العام في عالم ما بين الازرقين، مع إسقاط دكتاتور تونس، ولا تنتهي مع الإطاحة بدكتاتور دمشق. الطغاة يذهبون، اما المدن فتبقى بكل حركتها، واقعها، وحقيقتها، رافضة الخضوع الأبدي للأخ الاكبر!




الصفحة السابعة/ السنة التاسعة/ العدد21 /08 تموز  2012

0 comments:

Post a Comment