د. لمى محمد
الانتقام غير المبرمج سمة عربيّة...
تابعت هند حديثها بهدوء شديد متجاهلة علامات الاستفهام المتراكمة فوق وجهي .. و بحيادية فظيعة ، كما لو أنها تحكي لي قصة بنت الجيران ، و كأن الحديث كله لا يمت لها بصلة :
كانت أمي نظيفة جدا ، تردد دوما أنها تخاف العدوى و الجراثيم ..كانت تغسل يديها في اليوم الواحد عشرات المرات ، و تعقمهما بالكحول الطبي، تنظف البيت بطريقة جنونية عدة مرات يوميا ...الله يرحمها ماتت بين أكوام المنظفات و الصوابين...
عندما قرأت مقالة عن الوسواس القهري ، أحسست بها تتحدث عن أمي ، لم أكن أعلم أنني بعد الزواج سأصبح مثلها ، لكن بطريقة أخرى !! ربما هو مرض وراثي أليس كذلك ؟! و دون أن تنتظر جواب ، تابعت "هند" :
لم أعد أمارس الجنس مع زوجي ...أخاف من تلك الفكرة الملحة المعاودة بأنني..بأنني.. –لا تضحكي أرجوك –
بأنني قد أقص له قضيبه ...- لن أنظر إلى وجهك الآن يا دكتورة ...-
وكم حمدت الله على أن " هند " لم تنظر لوجهي فعلا ، لأن علامات الاستفهام على وجهي تلونت كلها بظل ابتسامة حمراء!!
لست منحرفة ، و أقسم أني أحبه لكن فكرة قص قضيبه كي أنتقم للنساء (المختونات) في كل بلاد العالم تجعل حياتي جحيما .. أعرف أن الفكرة سخيفة ، و أنني أنا من أوجدها ، ولا يمكن أن أفعلها ، لكنها تلح في رأسي بشكل وسواسي ، و ترغمني دوما على وضع الحجج و المبررات ،كي لا أقترب من زوجي ...
ساءت علاقتنا كثيرا مؤخرا ،بدأت أشغل نفسي بتمتمة الصلوات كلها التي أعرفها ، لكي أهرب من تلك الفكرة الإجرامية ، لكن عبثا ...تلاحقني تلك الفكرة و تخنقني ...
أتذكر أمي و كيف كان وسواس النظافة يقض حياتها ، كله وسواس أليس كذلك يا دكتورة ؟!
هززت رأسي ، وقبل أن أجيب تابعت "هند" :
زوجي "سعد " طيب جدا ، كنا زملاء في كلية الفنون الجميلة،لكنه متصالح مع الدنيا أكثر مني ، عاديتها أنا منذ الأزل ، و تحديتها أيضا ، أتعلمين عندما رسمت لوحتي الأولى كان التحدي الأول ...و مع توالي اللوحات كدت أرجم!!
أرسم عن مشاكل المرأة العربية ، لوحتي الأولى كانت عن "ختان الإناث" أسميتها:- الموت كل يوم - (قومت الدنيا و لم تقعدها) ...
اكتشفت بعدها أن العرب لا يستخدمون عقولهم ، فليس من المحبب لديهم قضاء ساعات في القراءة ...
أما الرسم فقصته أسهل نظرة واحدة على لوحة لختان الإناث ستوقظ الشرف العربي الذي بعثرته فنانة تافهة ، و ستعرضها لمحاكم تفتيش تكفل لها عدم النطق مجددا بكروية الأرض ، هذا ناهيك عن نظرية المؤامرة التي تدفع كل ذي بدعة لإطلاق فنه ...
من قال : قانون من أين لك هذا غير موجود في البلاد العربية ، بلى يا سيدتي هو موجود و بشدة .. لكنه لا يحاكم سارقي الأموال ، بل أصحاب العقول : من أين لكم هذه الأفكار يا ذيول الاستعمار ، من يدعمكم يا زنادقة ، كيف تجرأتم يا أعداء الأمة و العروبة ...
إن قانون : من أين لكم هذا يا سيدتي لا يطبق إلا على من يكون وقود أفكارهم مخيف، و مدمر...
أحمد الله على أن الفن التشكيلي غير مفهوم من قبل غالبية العرب ، نحتاج أدب تشكيلي و إعلام تشكيلي !!(و نريح راسنا)...
صمتت "هند " للمرة الأولى منذ دخولها عيادتي ، ثم ضحكت و قالت :
ثرثارة أنا أليس كذلك ؟! لكن بالمناسبة أنا أتيت هنا أشكو لك كل همومي ، و ليس مرضي النفسي و حسب...
ثم أخرجت كتابا من حقيبتها و قرأت بصوت عال :
(الوسواس القهري: كما يدل اسمه هو عبارة عن -وساوس- أفكار أو صور أو أفعال معاودة ،و مع كون المريض يعلم أنه مصدر هذه الوساوس و أنها سخيفة و غير ممكنة التحقق فإنها تسبب له القلق و العذاب و تجبره -تقهره - على ممارسة تصرفات متكررة كمحاولة لإنقاص هذا القلق)...
هذا هو مرضي أليس كذلك يا دكتورة ؟!
قلت لنفسي ضاحكة : ليت زواري كلهم مثلك يا فنانة محاكم التفتيش!!
يتبع...
الصفحة الأخيرة/ السنة التاسعة/ العدد22 /20 اكتوبر 2012
0 comments:
Post a Comment