جميع الحقوق محفوظة لصالح جريدة المساواة الرجاء ذكر المصدر عند اعادة النشر او الاقتباس

All rights reserved for Al Mousawat Journal Please mention the source when you republish or quote




Sunday, July 8, 2012

فتاة ثائرة في ميدان التحرير


د. نوال السعداوي

رأيتها تمشى في الميدان، الجسم الممشوق الصلب كجذع الشجرة، الرأس المرفوع كأنما يحمل قرص الشمس، أو ربما هى إلهة العدل ماعت، شعرها مجعد يحوط رأسها كالأسلاك، لا يلمسه أحد حتى يتكهرب، بشرتها سمراء بلون الطمى المحروق، رموشها معفرة بالتراب نافرة كالأشواك، عيناها سوداوان تطلقان رصاصة على من يتجرأ ويتحرش، اسمها ليس فيه التاء المؤنثة «فجر بنت فردوس»، ولدتها أمها في السجن مع ظهور الشفق، مع هالة الضوء المقبلة قبل الشروق.. لو قال عنها أحد «أنثى» تسقط فوق وجهه صفعة دون أن ترفع يدها، لو نطق كلمة «حريم» تصيبه ركلة دون أن تحرك قدمها، تطل من روحها جاذبية خارقة، ولا أنثوية لا ذكورية، مزيج من القوة والرقة وذكاء الفطرة، تبكى لأقل سبب وتقتل في لحظة غضب.
عمرها خمسة وعشرون عاما، هرب أبوها مع فتاة لعوب بعد أن حبلت بها أمها، قتلته الأم ودخلت السجن وابنتها جنين بالرحم، بلغت خمسة أعوام حين خرجت من السجن مع أمها وأخيها الرضيع، اغتصب السجان أمها ثم أخرجهم الثلاثة إلى الشارع، لم يكن لأخيها شهادة ميلاد، ملأت أمها استمارة باسم «أب وهمى» في سجل المواليد، أصبحت ترعى أخاها أثناء غياب أمها في الشغل، تخرج الأم في السادسة صباحا لتعود في السابعة مساء، يبكى أخوها من الجوع حتى ينام، ترضعه أمه حين تعود، جف ثدياها من التعب وقلة الطعام، فأصبح يشرب اللبن المغشوش من السوق الحرة، يبكى طول الليل من المغص والإسهال، تحوطه أخته بذراعيها وتبكى معه.
مرضت الأم ولزمت الفراش، خرجت ابنتها إلى الشغل، كانت في الرابعة عشرة وأخوها في التاسعة، أصبحت تنفق على أمها المريضة وأخيها التلميذ، اشترت له عجلة ليذهب للمدرسة، أعطاها مخدومها )الأستاذ الدكتور( سلفة لتشترى العجلة وتسددها على أقساط.
يوم العيد كانت منحنية تدعك المرحاض، حوطها الدكتور من الخلف بذراعيه، كأنما أبوها الحنون، ضربته بالشلاليت واللكاكيم، عضته بأسنانها الحادة في أعز ما يملك، انزلق فوق السيراميك المبلل وفشل في اغتصابها.
عادت زوجته الأستاذة الدكتورة من السفر في اليوم التالى، حكت لها ما حدث، صفعتها الدكتورة وطردتها، اشتغلت (فجر بنت فردوس) في بيوت كثيرة، في الزمالك والجيزة ومصر الجديدة، أدركت أن الأسياد الكبار يخونون زوجاتهم في الخفاء، تكتم النساء السر خوفاً من عقاب الله وحفاظاً على الأسرة المقدسة.
علّمت نفسها القراءة والكتابة والحساب، ادخرت لتشترى الكتب والروايات، كانت تحب الأدب، ثم تزوجت (محمد)، أمضى بالسجن ثلاث سنوات بتهمة سياسية، لم يكن له إيراد بعد الفصل من عمله، ضمته إليها بحنان الأم والأخت والزوجة، تولت وحدها مسؤولية الإنفاق والشغل داخل البيت وخارجه.
يوم ١١ فبراير ٢٠١١ تنحَّى مبارك عن الحكم وبلغت هى الرابعة والعشرين، أخوها بلغ التاسعة عشرة، أدخلته الجامعة واشترت له دراجة «فسبا» بدل العجلة، شاركت هي وزميلتها (خديجة) في الثورة منذ بدايتها في ٢٥ يناير، لم تعطلها المظاهرات عن عملها في بيت الزوجية وبيوت الطبقة العليا، تأخرت بالليل يوم تنحى مبارك، سألها زوجها:

- اتأخرتِ ليه؟
- كنت في ميدان التحرير.
- المظاهرات للرجالة مش للحريم.
- أنا مش حريم يا محمد.
- طبعا بقيتِ الراجل وأنا الحريم.
- الناس كلها في التحرير يا محمد.
- أنا قلت ما فيش مظاهرات، فاهمانى؟
- فتحت الباب لتخرج، شدها من ذراعها وصفعها بعنف، ردت له الصفعة وقالت:
- إنت طالق يا محمد.
- الراجل هو اللى بيطلق يا حمارة.
- تبقى مخلوع زى (مبارك).
شاركت زميلتها (خديجة) في غرفتها بالشرابية.. بعد أن تنتهى من الشغل تذهب إلى ميدان التحرير، تعود إلى الغرفة لتقضى الليل أو تبيت مع أمهات الشهداء في الخيام، أو في مستشفي الميدان، تساعد الممرضات في تطهير جروح المصابين والمصابات، أو تغسل الملابس والفوط، وتنظف الأرض من الدم والشاش والقطن، أول كل شهر تذهب إلى بيت أمها، تناولها مصاريف البيت والدواء، تترك لأخيها مظروفا به نفقات الجامعة ومصروفه، يوم المظاهرة النسائية قاتلت ضد البلطجية من العسكر والبوليس، تضربهم بالشلاليت واللكاكيم إن تحرشوا بالبنات والأطفال، عادت إلى بيت أمها تلك الليلة أنفها ينزف، كان أخوها نائما، في الصباح سمعته يقول: شباب الثورة دول عملاء بيقبضوا من أمريكا، والشابات دول عاهرات.. غضبت وقالت:
- دول أطهر ناس في البلد.
ارتفع صوت أخيها بالشتائم.
سمعت أمها تبكى في فراشها.
- مافيش مظاهرات.. أنا قلتها كلمة.
خرجت وصفقت الباب خلفها.
في الليل سمعتها صديقتها تنشج بصوت مكتوم:
- أمى اتعذبت كتير يا خديجة، كان نفسى تفرح بابنها في أواخر عمرها.
رأيتها بالأمس تمشى في ميدان التحرير.
صافحتنى بيد قوية، تذكرت يد جدتى الفلاحة في طفولتى:
مش عارفانى يا ضكطورة؟
أنا فجر بنت فردوس.
قريت كتبك وعمرى خمستاشر سنة.


الصفحة الثامنة/ السنة التاسعة/ العدد21 /08 تموز  2012

0 comments:

Post a Comment