فرات المحسن
بداية عام 2009 ظهر للمرة الأولى في بعض الصحف والمواقع العراقية إشارات لوجود ظاهرة جديدة في العراق سميت بالإيمو وهي تسمية أطلقت على بعض الشباب الأوربي الذي يعرف بنزوات وطباع معينة تمثلها نزعات عدمية وتغرب عن المجتمع وتجمعات في حفلات صاخبة وأيضا يمتاز أعضاء تلك المجاميع بارتداء ملابس بعلامات ورموز موحية أو غير موحية ولكن المهم فيها شكلها الذي يميز أصحابها عن غيرهم من الشباب، كذلك ينفرد هؤلاء بمواصفات أخرى مثل قصات شعر مسترسلة وغريبة والبعض يصبغ شعر رأسه بألوان فاقعة، ويميزهم كذلك استعمال الحلق والخواتم الغريبة الشكل مثل الجمجمة والسيوف والكتابات بالحروف الصينية، وفي الغالب هم مجاميع غير مؤذية ومنطوية على نفسها ودافعهم لانتهاج هذا السلوك هو الرفض للواقع الذي يعيشونه وشعورهم بالضياع والفراغ الذي يحيطهم ومحاولة تجاهل ما يدور حولهم من أحداث، و هم امتداد لظواهر سبقتهم في الوجود وسط المجتمعات الأوربية مثل الهيبز والهوليغنز وغيرها.ولم تكن المجتمعات العربية أبدا بمنأى عن مثل تلك الظواهر وهي نتاج طبيعي في مجتمعاتنا العربية مجتمعات الكبت الجنسي والعزلة والانغلاق الفكري والمآزق الثقافية والأخلاقية لذا تكون ممارساتهم ردود فعل على شكل متع عبثية وغريبة تعبر عن ذوات فارغة مستنكرة لموقف محيطها الاجتماعي وحتى السياسي والاقتصادي منه، وتمثل البطالة وقلة التعليم أو انحداره مرتعا خصبا لنشوء مثل تلك الظواهر وربما إن هذين السببين مع الكثير من الأسباب والمشاكل المتفاقمة في المجتمع العراقي لا تجعل ظاهرة الإيمو تنفرد بوجودها ونيلها قصب السبق في وسائل الإعلام اليوم فهناك ظواهر مثل طيور الجنة التي تزج الأطفال في عمليات القتل اليومي وعصابات من صغار السن وكباره ومثلها للنساء تختص بجرائم السرقة والقتل وخطف الأطفال، وتنتشر اليوم مهنة تروج للخرافات والشعوذة والسحر الأسود، وهناك عصابات التزوير وخداع الناس، وتنظيمات اجتماعية وسياسية تمتهن النصب والاحتيال والنهب والقتل بمختلف أشكالها وتلك العصابات أكثر خطرا وأدعى للمطاردة والقصاص بدلا من هؤلاء الشباب من مجاميع ما سمي بالإيمو وغيرها.
في العراق اليوم خلط متعمد لجميع تلك الظواهر فظاهرة الإيمو عند الأغلبية في المجتمع العراقي لا تختلف عن ظاهرة المثيلين أو عبدة الشيطان أو الهيبيز و الهوليغنز أو حتى عصابات الجريمة، وهذا الخلط المتعمد ينحوا أساسا للقصاص من ظاهرة أخرى ليست هي ظاهرة الإيمو بالتحديد وإنما التلويح بالقصاص خارج نظم القانون لهؤلاء وغيرهم، وصولا إلى تبرير جريمة القتل لجميع الشباب الذي يغردون خارج السرب أو ينتهجون ما يخالف التقاليد والأعراف القبلية والدينية، وتعد الأناقة والملابس المزركشة والإكسسوارات ميزات للشخص الذي يخرق تلك القوانين والتقاليد والأعراف ويطلق عليهم بشكل عام توصيف الجراوه أي صغار الكلاب وهي تسمية مبتذلة استطابها المجتمع ألذكوري.
أعراف البداوة والريف التي غزت المدن العراقية ومسخت طبيعتها المدينية تتطلب فيما تتطلبه كمظهر شخصي ملابس تقليدية مثل الدشداشة والسترة والغتره أي اللباس التقليدي للفلاحين والبدو والذي يعد اليوم الزي المفضل للغالبية من رجال العراق حتى القادة السياسيين وأساتذة الجامعات منهم، ويتخذ منه رداءً في الحياة العامة أو في البيوت. أما ارتداء الزي الأخر المتمثل بالبنطلون والقميص فيقتصر على موظفي الدولة وفي أجواء العلاقات الرسمية ويتخلى عنه في جلسات المقاهي والتنزه في الأماكن العامة أو داخل البيوت أو حلقات التزاور، وانتشرت ظاهرة ارتداء الدشداشة بعد تسريح آلاف الشباب من الجيش أثر انتهاء حربي الخليج الأولى والثانية وفترة الحصار الاقتصادي التي ساعدت بنتائجها على انتشار البطالة وظهور الحرف الهامشية التي تمارس أعمالها في عربات متحركة أو فوق الأرصفة، وأصبح ارتداء الدشداشة والتجول بها يمثل مظهرا من مظاهر الرجولة التي برزت مع تسيد ثقاليد الريف والبداوة. كذلك فأن ظاهرة ارتداء الدشداشة ممكن أن نجد فيها محاولة لتقليد الرداء الرسمي والدارج في الخليج، وشاع ظهور الدشداشة بشكل ملفت للنظر بعيد فترة الارتكاس الثقافي الذي عم الحياة العراقية إثر انقلاب حزب البعث على حلفائه الشيوعيين عام 1978 واختفاء مجاميع ومنظمات كانت تدعم ركائز الثقافة والمدنية، بعدها أسفر قادة انقلاب 17 تموز عن حقيقتهم وبدأت معه عملية انحدار مجتمعي حيث انتقلت أعراف الريف إلى المدن بكثافة غير معهودة وبأسباب عديدة كان من أهمها التركيبة الاجتماعية لقادة ذلك الانقلاب وخلفيتهم الريفية والبدوية الممزوجة بالتقاليد العسكرية الصارمة والتي مثلها أحمد حسن البكر خير تمثيل فكان يفضل دائما ارتداء الدشداشة بشكل يومي ومبادلتها فقط بالبزة العسكرية وكان يحتفظ ببقره وزوج من الخراف في حديقة داره الواقعة في منطقة علي الصالح في بغداد ، وكان البكر يكره ارتداء الزي المدني أي السترة والبنطلون ومثله كان يفعل حردان التكريتي وباقي قادة الانقلاب من ذوي الخلفية البدوية، ونهج ذات السلوك باقي قيادات حزب البعث وشملت العدوى الكثير من أعضاء الحزب ومناصريه، وروج لهذا الأمر باعتباره جزء من قوة واعتداد ورجولة الرجل، وقد اتخذ فيه طابع التشدد بعد إعلان صدام حسين عن مشروعه لعسكرة المجتمع.
أعوام السبعينات امتازت بملامح أزياء استطاب الشباب وخاصة الجامعي منه ارتدائها من مثل الميني جوب للفتيات وهو الثوب القصير فوق الركبة والجارلس وهو البنطال الفضفاض من الأسفل والضيق من الأعلى وقصة الشعر تتميز بالسوالف ( زلف) الكثة والطويلة والشعر الساقط على الكتف وكان الكثير من الشباب ينحوا لتقليد قصة الشعر الجيفارية نسبة للمناضل الشهيد تشي جيفارا. لم تحتمل عقلية قيادة البعث وحتى جماهيره انتشار تلك المظاهر فوجهت قوة بأسها لإيذاء هؤلاء الشباب في محاولة لأبعادهم عن ممارسة تلك المظاهر فقاد خير الله طلفاح وهو خال المقبور صدام وكان هذا المجرم يحمل كراهية خاصة لكل ماهو مديني ويعتبر مدينة بغداد خصما لدودا له ولعائلته على كثرة ما لاقاه من صدود وكراهية قابلته بها بغداد جراء سلوكه المنحرف، ثم أوكلت قيادة البعث بعد حين لأحد مجرميها وهو سمير الشيخلي ليقود الحملة من جديد ضد الشباب في محاولة لأهانتهم وتركيعهم، استخدمت في الحملتين أساليب همجية مثل تلطيخ سيقان الفتيات بالصبغ الأحمر وشق البناطيل بالمقص وفي بعض الأحيان احتجاز بعضهم في مراكز الشرطة. كانت تلك الحملات المسعورة والتي دفعت بكلابها ليقفوا أمام أبواب الكليات والثانويات وقرب المقاهي لتصيد الشباب وإيذائهم، تعبيرا دقيقا عن مشاعر حقد وكراهية تتلبس شخصيات ملوثة بثقافة تمقت الحياة والحرية والتمدن فيكون نتاجها دائما العداء للآخرين الذين تعدهم خصوما وخارجين عن القانون والتقاليد والأعراف ومن الموجب أن يوجه لهم القصاص ليكونوا عبرة لغيرهم.
اليوم يحدث ذات الشيء ولكن بشكل أخر فجرائم القتل التي تطال الكثير من الشباب العراقي على خلفية تهمة الانتماء لجماعة الإيمو ما هي إلا حملة مخادعة ومركبة تشارك فيها مجاميع ليست بالقليلة العدد أو القدرة، ومنهم من هو في السلطة ومؤسساتها تساندهم في هجومهم هذا أعراف وتقاليد البداوة والريف التي تفشت مثل النار بالهشيم واجتاحت مدن العراق لتتسيد بمفاهيمها الضحلة حياة الناس وتندفع لتعيد تركيب ثقافة المجتمع وفق النهج غير السوي والمؤذي والمتخلف الذي مثلته سابقا سياسات حزب البعث الرعناء لتمارس ذات الحملات المسعورة لخير الله طلفاح وسمير الشيخلي ولكن اليوم بعقوبة أشد. في ظني إن أعراف الدشداشة والنطاق و الغتره والشفطة حلت اليوم بديلا عن روح خير الله طلفاح وسمير الشيخلي. كذلك فإن مشاعر الدونية التي سادت بين أوساط قادة البعث في ذلك الوقت من جراء الخوف والتطير من منظر التقدم والتحضر في المدن، نراها اليوم تتلبس أرواح المنادين بالرجوع لأعراف العشيرة وتقاليد الريف لذا تراهم يستفزون وينفرون لا بل يتخوفون من منظر الشباب المتأنق المرتدي أحدث الأزياء النظيفة والأنيقة بألوانها الزاهية وبقصات شعر جميلة، ولكي تكون حملات الحقد والجريمة مبررة وتتقبلها قطاعات مجتمعية برضا واقتناع فإن أقصر طريق لذلك هو اتهام جميع الشباب الأنيق وبمختلف إشكالهم ومواقعهم بتهمة ظاهرة الإيمو أو عبدة الشيطان أو الجراوة ومن ثم إباحة دمهم وتلك رسالة دقيقة التعبير واضحة الإشارة موجه بالتحديد لمن يريد الطعن بظاهرة الدشداشة وأعراف وقيم التمسك بارتدائها كونها باتت تمثل رمزا من رموز الوطنية العراقية.
الصفحة السادسة/ السنة التاسعة/ العدد20 /08 آذار 2012
0 comments:
Post a Comment